أجاب الشيخ رحمه الله تعالى بجواب طويل هو هذه الرسالة العرشية ومما قاله شيخ الإسلام فيها: "إنه لقائل أن يقول: لم يثبت بدليل يعتمد عليه أن العرش فلك من الأفلاك المستديرة الكرية الشكل، لا بدليل شرعي ولا بدليل عقلي".
ثم أخذ يرد على القائلين بأن العرش هو الفلك التاسع فقال: "فالأشكال الحادثة في الفلك -لمقارنة الكوكب الكوكب في درجة واحدة، ومقابلته له إذا كان بينهما (نصف الفلك) وهو مائة وثمانون درجة، وتثليثه له إذا كان بينهما (ثلث الفلك) وهو مائة وعشرون درجة، وتربيعه له إذا كان بينهما (ربعه) تسعون درجة، وتسديسه له إذا كان بينهما (سدس الفلك) ستون درجة، وأمثال ذلك من الأشكال- إنما حدثت بحركات مختلفة، وكل حركة ليست عين الأخرى؛ إذ حركة (الثامن) التي تخصه ليست عين حركة التاسع، وإن كان تابعاً له في حركته الكلية،كالإنسان المتحرك في السفينة إلى خلاف حركتها" شيخ الإسلام رحمه الله يرد على الذين يقولون: إن الفلك التاسع الأطلس هو الذي يحرك بقية الأفلاك، ويقول لهم: إن حركة كل فلك تخصه.
إلى أن يقول: "ولكن هم قوم ضالون، يجعلونه مع هذا ثلاثمائة وستين درجة، ويجعلون لكل درجة من الأثر ما يخالف الأخرى؛ لا باختلاف القوابل؛ كمن يجيء إلى ماء واحد، فيجعل لبعض جزءيه من الأثر ما يخالف الآخر؛ لا بحسب القوابل؛ بل يجعل أحد أجزائه مسخناً، والآخر مبرداً، والآخر مسعداً، والآخر مشقياً..! وهذا مما يعلمون -هم وكل عاقل- أنه باطل وضلال.
وإذا كان هؤلاء ليس عندهم ما ينفي وجود شيء آخر فوق الأفلاك التسعة، كان الجزم بأن ما أخبرت به الرسل هو (أن العرش هو الفلك التاسع) رجماً بالغيب، وقولاً بلا علم".
انظروا جهل هؤلاء الفلاسفة وتخبطهم؛ فهم ليس عندهم ما يثبت ما قالوه ولا ما ينفيه أيضاً؛ لكن خطر في عقولهم أن الأفلاك تسعة، أو أن العقول عشرة... لماذا لا تكون مائة أو ألفاً؟!... هكذا..!
ولذلك كان كلامهم أضحوكة عند علماء الفيزياء وعلماء الكونيات في هذا العصر؛ فإن الباحثين -إلى هذه اللحظة- لم يستطيعوا أن يصلوا إلى أبعاد هذا العالم السفلي -الكون الذي هو دون السماء الدنيا- ولا إلى نهايته، ولم يستطيعوا أن يدركوا حقيقته، فما بالكم بمن يتكلم عن أفلاك تسعة؟! هذا رجم بالغيب وقول بلا علم..!
ثم يقول رحمه الله: "هذا كله بتقدير ثبوت الأفلاك التسعة على المشهور عند أهل الهيئة؛ إذ في ذلك من النزاع والاضطراب -وفي أدلة ذلك- ما ليس هذا موضعه، وإنما نتكلم على هذا التقدير.
وأيضاً: فالأفلاك في أشكالها وإحاطة بعضها ببعض من جنس واحد؛ فنسبة السابع إلى السادس كنسبة السادس إلى الخامس، وإذا كان هناك فلك تاسع، فنسبته إلى الثامن كنسبة الثامن إلى السابع، وأما (العرش) فالأخبار تدل على مباينته لغيره من المخلوقات" أي: فالعرش ليس مجرد فلك كسائر الأفلاك، قال: "وأنه ليس نسبته إلى بعضها كنسبة بعضها إلى بعض" أي: مثل نسبة السماء الأولى إلى الثانية أو الثانية إلى الثالثة "قال الله تعالى: ((الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ))[غافر:7] الآية وقال سبحانه: ((وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ))[الحاقة:17] فأخبر أن للعرش حملة اليوم ويوم القيامة، وأن حملته ومن حوله يسبحون ويستغفرون للمؤمنين، ومعلوم أن قيام فلك من الأفلاك -بقدرة الله تعالى- كقيام سائر الأفلاك، لا فرق في ذلك بين كرة وكرة، وإن قدر أن لبعضها ملائكة في نفس الأمر تحملها، فحكمه حكم نظيره" يعني: إذا كان لفلك منها ملائكة تحمله، فلغيره من الأفلاك ملائكة تحمله أيضاً؛ فحكم جميع الأفلاك إذن واحد، والعرش ليس كذلك.
قال: "قال تعالى: ((وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ))[الزمر:75]، فذكر هنا أن الملائكة تحف من حول العرش، وذكر في موضع آخر أن له حملة" مثل قوله تعالى: ((وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ))[الحاقة:17] "وجمع في موضع ثالث بين حملته ومن حوله فقال: ((الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ))[غافر:7]، وأيضاً فقد أخبر أن عرشه كان على الماء قبل أن يخلق السماوات والأرض، كما قال تعالى: ((وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ))[هود:7].
وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض}.
وفي رواية له: {كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء}".
وليس العجب هنا أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة عن هذا الشيء، فإنه صلى الله عليه وسلم أخبرنا بما لم نكن نعلمه أو نتخيله، ولا يمكن لعقول الناس أن تعلمه أو تتخيله، لكن العجب هو من وفد أهل اليمن الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً أو مجدداً للإيمان، وأخذ يسأله عن أول هذا الأمر وكيف كان؛ فكيف خطر على عقولهم هذا السؤال؟! إن العرب في الجاهلية لم يكن يخطر ببال أحدهم مثل هذا السؤال عن نشأة هذا الكون ولم تكن عقولهم لتنشغل بهذه الأشياء، وإنما كان عقل العربي في الجاهلية يدور حول الناقة والمرأة والخيمة والخيل، وأمثال ذلك.
إن التفكير في مسألة نشوء العالم قد يكون؛ لكن كخواطر فطرية، تخطر بعقل أحدهم من غير أن يلقي لها بالاً.
ولم يكن يخطر ببال أحدهم أن يصل ذلك إلى علم يقيني يعتقدونه.
لكنهم عرفوا وعلموا قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدر العلم والهدى الذي جاء به، فأخذوا يسألونه عن ذلك ليعرفوا الحق في هذه المسألة المهمة.